1 min read

في إحدى حلقات مسلسل Black Mirror، يُعاقبُ رجلٌ بطريقةٍ مروّعة: لا يُحبس، ولا يُعذَّب، بل يُمنع من الوجود نفسه، لا أحد يراه، لا أحد يسمعه. يمرُّ بين الناس كأنه شبح. الوجوه حوله تتشوّش، الأبواب لا تُفتح، ولا يُعترف به.


لم يُسجن داخل زنزانة، بل أصبح خارج العالم.هذه الحبكة الخيالية ليست بعيدةً تمامًا عمّا يحدث في بعض المدن اليوم، حين تُصبحُ الأسوارُ العالية، والتصاريح الأمنية، وأنظمة الدخول الذكية أدواتٍ تُحدّد من له الحقّ في العيش، ومن يُمنَع حتى من العبور.


حين يُبنى "كومباوند" داخل مدينة، بأسواره وبواباته وكاميراته، لا يكون مجرّد مشروع عقاري، بل يُعاد تشكيل "من له حقّ الوجود" داخل المدينة.في هذا المقال، نتتبّع نشأة هذه المجتمعات السكنية المُسوّرة من بداياتها، نحاول فهم ما الذي يجعل المدينة تُقسّم نفسها إلى "داخل" و"خارج"، ومن يملكُ الامتياز أن يكون في الداخل، ومن يُتركُ هناك… على الجانبِ الآخرِ من السور.


المجتمعاتُ السكنيّةُ المُسوَّرة: جغرافيا العُزلةِ في المدينةِ المعاصرةالمُجتمعاتُ السكنيّةُ المُسوَّرة، أو ما يُطلَقُ عليها عُرفًا في السياقِ المصريّ «الكومباوند»، هي مساحاتٌ سكنيّةٌ حصريةٌ لقاطنيها، مُحاطةٌ بأسوارٍ وبواباتٍ مراقَبة، مزوَّدةٌ بكاميراتِ مراقبةٍ، وأمنٍ خاص، وشركاتِ إدارةٍ للمرافقِ والخدمات. ويتفاوتُ حجمُ هذه المجتمعاتِ ودرجةُ خدماتها ومرافقِها الترفيهيّة، من مُجمَّعٍ إلى آخر، بحسبِ الموقعِ والفئةِ المستهدَفة.ظهرتْ هذه المجتمعاتُ بصورتها الحديثةِ في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدًا في ولايةِ كاليفورنيا، في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.


 وقد شُيِّدتْ في بداياتها لتكونَ مناطقَ محصَّنةً للأثرياءِ من أصحابِ البشرةِ البيضاء تحديدًا، بدوافعَ امتزجَ فيها الحِسُّ الطبقيُّ بالرُّهابِ العُنصري. فجاءتْ استجابةً لهواجسَ اجتماعيّةٍ تتعلَّقُ بـ"الحفاظِ على النقاءِ الاجتماعيّ"، وبمخاوفَ من تصاعُدِ الجريمةِ والعنفِ الحضريّ في بعضِ المدنِ، لا سيما بعد اضطراباتِ الحقوقِ المدنيةِ التي شهدتها البلادُ آنذاك.ومع مرورِ الوقت، تطوّرتْ هذه الظاهرةُ من حيثُ الدوافعُ الاجتماعيّة، فصارتْ رمزًا للمكانةِ الاجتماعيةِ الراقيةِ، ونمطِ الحياةِ الفاخر، وأداةً استثماريّةً مربحة، تُسهمُ في تراكمِ الثروةِ العقاريّة. 


وانتشرَ نموذجُ الكومباوندِ تدريجيًّا إلى بلدانٍ متعدّدة، مُتكيِّفًا مع ظروفِ كلِّ مجتمعٍ وسياقٍ محليّ.في بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء، على سبيل المثال، جاء انتشارُ هذه المجتمعاتِ بوصفِه استجابةً أمنيّةً صِرفة، في ظلِّ معدّلاتِ جريمةٍ مرتفعةٍ. فتراها محصَّنةً بأسوارٍ مزدوجةٍ، وأسلاكٍ شائكةٍ أو كهربائيّةٍ أحيانًا، بما يتجاوزُ البُعدَ الرمزيَّ للتمييزِ الطبقيّ، إلى حمايةٍ ماديّةٍ من خطرِ السرقةِ أو الاعتداءِ الجسديّ.

أمّا في الخليج العربي، وتحديدًا المملكة العربية السعودية، فقد نشأتْ بعضُ هذه المجتمعاتِ المسوَّرة كأطرٍ ثقافيّةٍ موازية، لتوفيرِ مساحاتٍ "بديلةٍ" تسمحُ للعائلاتِ الغربيّةِ بممارسةِ نمطِ حياةٍ مختلفٍ عن السائدِ خارِجَ الأسوار. فتبدو أحيانًا كأنها "دولٌ داخل الدولة"، تُوفِّرُ نمطًا من العيشِ يبدو مستهجنًا اجتماعيًّا خارِجَ تلك الحدودِ المُحكَمة.

في السياق المصريّ، بدأت الظاهرةُ على استحياءٍ في تسعينيات القرن الماضي، مع مشروعاتٍ مثل: الرحاب في القاهرةِ الجديدة، ودريم لاند في مدينةِ السادس من أكتوبر. وقد جاءت هذه المشروعاتُ كردِّ فعلٍ على تدهورِ البنيةِ التحتيةِ للمدينةِ القديمة: من زحامٍ، وتلوُّثٍ، وانعدامِ مساحاتٍ خضراء، ورداءةِ خدماتٍ أساسيّة. فجاءت وعودُ المطوّرينَ بالعزلةِ الهادئة، والهواءِ النقيّ، والمسطحاتِ الخضراء، والخدماتِ الخاصّة، بمثابةِ ملاذٍ مُغرٍ لأثرياءِ الطبقةِ المتوسطةِ العُليا، رغم تكاليفِ السكنِ الباهظة، وبعدِ المجتمعاتِ الجديدةِ عن مركزِ المدينةِ وفرصِ العمل.


وفي الربعِ الأولِ من القرن الحادي والعشرين، تسارعتْ وتيرةُ التوسُّعِ العمرانيّ خارجَ الحدودِ التقليديّةِ للقاهرةِ، ومعها تصاعدتْ موجةُ المدنِ الجديدةِ المُسوَّرةِ في الصحراءِ. وباتتِ الظاهرةُ أكثرَ رسوخًا، وأكثرَ تعقيدًا في دوافعِها؛ إذ لم تَعُدْ فقط انعكاسًا لمشكلةٍ عمرانيّةٍ أو خدماتيّة، بل أصبحتْ مرتبطةً بمنظوماتٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ وفكريّةٍ تُعيدُ تشكيلَ العلاقةِ بين المواطنِ والمكانِ والدولةِ.تلك كانت مقدّمةً لازمة للوقوفِ على نشأةِ هذه الظاهرةِ عالميًّا وإقليميًّا ومحليًّا. 


وفيما هو قادم، سنتناولُ تفكيكًا فلسفيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وعمرانيًّا أعمق، لرصدِ تحوّلاتِ الكومباوندات خلالَ ربعِ القرنِ الماضي، والوقوفِ على الآثارِ المترتبةِ عليها، سلبًا وإيجابًا، في حاضرِ المدينةِ العربيةِ ومستقبلِها.